الرئيسية / الخط العربي.. والانغماس في التجربة البصرية

الخط العربي.. والانغماس في التجربة البصرية

الخط العربي.. والانغماس في التجربة البصرية


 خالد خضير الصالحي


1

فن الخط فرع من الثقافة الإسلامية

كان فن الخط دائما فرعا مهما من فروع الفنّ بين الثقافات الإسلامية، فهو

أحد أكثر الفنون شيوعا طوال التأريخ الإيراني، فلقد أبدى الإسلام انتباها

قويا إلى الكلمة  في المعتقد الإسلامي مما أعطى اهتماما إلى فنّ الخط

والخطاطين، وحظوة واحتراما بين الثقافات والفنون الإسلامية.. فدخل فن

الخط إيران عند الفتح الإسلامي، وصار جزء من لحمة الثقافة الإسلامية

الفارسية التي ساهمت في تطوير أنواع من الخطوط العربية فابتدع الخطاطون

الإيرانيون خطوطا أهمها : خط (النستعليق) وهو خط فني يستخدم في كتابة

النصوص وخط (الشكسته) وهو خط ابتدع للكتابة اليدوي، مثلما ابتدع العرب خط

الرقعة والأتراك الخط الديواني للغرض ذاته، فكان خط (النستعليق) علامة

الهوية للفرع الفارسي من فن الخط الإسلامي وهو معروف بعروس فن الخط

الإسلامي. و قد ساهم التأريخ الطويل والنشيط لفن الخط في إيران إلى ظهور

خطاطين موهوبين عديدين أسهموا في تأسيّس قاعدة لفن الخط الفارسي، وبسبب

ذلك صارت قواعده صارمة.


ان أغلب المخطوطات المكتوبة باليدّ في إيران وخصوصا القرآن الكريم،

ومجموعات القصائد مثل الشاهنامة وأشعار أهم الشعراء الفرس: حافظ،

غوليستان، بوستان، وعمر الخيام عرفت كأعمال فنية ثمينة بسبب فن الخط

اللطيف الذي كتبت به وتمتلك هذه الكتب قيمة وأهمية استثنائية للخبراء

الفنّيين في كافة أنحاء العالم، وان هذه الكتابات اليدوية الجميلة حفظت

على شكل مدونات يقدر عددها بحوالي 15,000 من نسخ القرآن الكريم وقصائد

الشعر التي ينسجم ويتناغم فيها فنّ الصورة والكتابة. كانت العديد من تلك

المخطوطات المكتوبة يدويا تزيّن بشكل جميل و تؤطّر صفحاتها في أغلب

الأحيان بالزخارف الذهبية القيمة. وهنالك العديد من الكتب المقدسة بقيت

محفوظة جيدا في متحف المكتبة العظيمة التي تقع في مدينة مشهد التي تقع في

المنطقة الشمالية الشرقية من إيران، وقسم منها محفوظ كأعمال فنية ثمينة

في المتاحف والمجموعات الخاصة في كافة أنحاء العالم.


يعود تأريخ فن الخط في إيران، إلى عصر ما قبل الإسلام، في الكتابات

الزرادشتية الجميلة . و بمجيء الإسلام، دخل فن الخط عصرا جديدا، فطبقا

للفكر الإسلامي , كان للتشخيصية في الفنون، بعض معاني عبادة أصنام، لذا

حملت الكتابة الرسالة الفنية، فأصبح فن الخط الفارسي سيد الفنون في إيران

وهو فن شاق يتطلّب مرانا لمدة طويلة وتدريبا قاسيا وتركيزا شديدا. تدريب

يبتدئ من البدايات مع الحروف المفردة ثم الكلمات وتشكيلات الحروف فيها،

ثم كتابة المطولات.




2


أدوات الخط


تدعى أداة الكتابة (القلم)، وهي قطعة من القصب الفارسي القاسي و المشذّب،

وبطول حوالي   5-10 سم  وبسمك مليمتر، وهو يقطع إلى حوالي 20 سنتيمترا،

ومادة الكتابة هي المداد أو الحبر، ويصنعه الخطاطون بأيديهم من السخام

والعفص والصمغ العربي ويضاف عليه العسل بعد إتمامه لمنعه من الفساد،

وتسمّى الزجاجة التي يوضع الحبر فيها (الدواة) والخيوط التي توضع في

الدواة لمنع انسكاب الحبر تسمى (الليقة)، تلك ببساطة  الأدوات المستعملة،

و  الخطاطون يتولون بأنفسهم عمل القلم وهو ما يسمى (القط) وقيل (ان القط

نصف الخط) وهم يحددون قياس النقطة. ان منقار القصبة  يجب أن يقسّم في

المركز إلى نصفين متساويين.


Ameer Ali, [26/07/2025 02:11 م]

3

النستعليق و الشكسته

يتميز خط النستعليق بكونه الخط الرسمي الفارسي الذي تكتب به الكلمات

والنصوص في كل أنحاء إيران وأماكن وأمم أخرى مجاورة مثل كردستان وباكستان

وأفغانستان وغيرها، وقد يكون أسمه مشتقا من كلمتي (نسخ – تعليق)، والنسخ

يعني نسخ الكتب والنصوص بالكتابة اليدوية،  ونعتبره نحن، قراء الحرف

العربي من غير الفرس، أكثر (رسمية) من أنواع الخط الفارسي الأخرى،

باعتباره أكثر نسقية وقواعدية، فحروفه مقروءة بسهولة، بينما من الصعوبة

قراءة الخط المهم الآخر (الشكسته) من غير الفرس، رغم كونهم يستخدمون

الحرف العربي في كتابة هذا النوع من الخط لوجود أشكال لا تمت سوى بصلة

بعيدة لأشكال حروف أنواع  الخط العربي الأخرى، الأمر الذي حدا بعدد  من

علماء الدين الى عدم تحبيذ كتابة القرآن الكريم بخط الشكستة، لصعوبة

قراءته طبعا .

ان الخطين : النستعليق و الشكسته هما من أنواع الخطوط العربية اللينة،

مثل خطوط: الثلث والريحاني والطومار والنسخ والأجازة والرقعة والديواني

وغيرها، وهي الخطوط التي لا تستخدم الأدوات الهندسية في كتابتها (رسمها)

كالكوفي بأنواعه المختلفة، ولكنه يتميز عنها بخاصية استثنائية غاية في

الأهمية، وهي ذاتها التي تمنح حروفه سمتها الموسيقية، وهي وجود حركتين

لأصابع يد الخطاط في استخدام قلم الكتابة (القصبة) وليس حركة واحدة، كما

في أنواع الخط العربي الأخرى، وهو الاتجاه الأفقي: من الأعلى إلى الأسفل

وبالعكس، ومن اليمين إلى اليسار وبالعكس، بينما توجد في الخطوط الفارسية

حركة مهمة أخرى هي حركة القلم صعودا وهبوطا بطريقة عمودية وبشكل قوس على

سطح الصفحة، وبذلك يتم تحديد جزء فقط من القلم يلامس سطح الصفحة، عكس

أنواع الخطوط العربية الأخرى، وبذلك يتنوع سمك الحرف الواحد في الخطوط

الفارسية وهو ما يعطي أهم الخصائص الفنية في هذه الخطوط، وبالأخص خط

الشكسته، الذي يعتمد أساسا على تقنية التلاعب بهذه الإمكانية، ويمكن

تسمية من أبو الفضل سافجي ومير عماد وهم سادة هذا الفنّ، بينما يعتبر أحد

أكثر الطلاب ألمعية  لمير عماد الخطاط نورالدين محمد لاهيجي باعتبارهم من

أشهر الخطاطين الإيرانيين المتميزين.


4

تجارب حديثة

لقد اطلعت على تجارب العديد من الخطاطين الإيرانيين حين كنت لاجئا هناك

بعيد حرب الخليج الثانية، حيث استقر بنا المقام في مدينة دزفول وسوف

أتناول بعض التجارب المهمة منها تباعا، بغية التعريف بما أنجزه الخطاطون

الفرس الذين هم أهل هذا النمط من الخط، بينما نجد خطاطينا يدرسونه من

خلال الخطاطين الأتراك الذين لا يجيدون كتابته كما يكتبه الخطاطون الفرس،

وسوف أتناول هنا  تجربة الخطاط الإيراني سيرجي اسرافيل، وهو أحد مشاهير

الخطاطين الفرس في وقتنا الحاضر، فقد أبهرتني كتابته الحرف العربي بخط

النستعليق، ولكن ما أبهرني أكثر أعماله بخط الشكسته، والتي، من حسن حظي،

إنني كنت فيها مبتعدا عن (النثري) بمرحلتين : الأولى جهلي بالفارسية، كما

ذكرت، وبذلك ابتعدت عن الانشغال بالمعنى في لوحات النستعليق، والثانية

جهلي بقراءة بعض الحروف،  وبذلك فقد أهملت القراءة والمعنى في لوحات خط

الشكسته، فانشغلت كليا بالبصري.


Ameer Ali, [26/07/2025 02:11 م]

5

النثري والبَصَري

ترافق الخط، كما ترافق الرسم، جوانب نثرية (غير بصرية)، وهو أمر يبدو

أننا نكرره دائما لأهميته في تلقي الفنون التشكيلية، وأعتقد أن الجوانب

غير البصرية هنا تكمن في هيمنة إمكانية القراءة اللغوية للعبارة أولا، ثم

ما يتبعها من معنى ثانيا، وهما أمران رغم موجوديتهما التي لابد منها،

وأهميتهما التاريخية في حفظ وديمومة الخط العربي عبر العصور الماضية، إلا

أنها لا تشكل البعد الفني له على ما نعتقد، بل وتشكل شاغلا للمتلقي عن

تلمس الجوانب الفنية فيه. لقد كان لافتقارنا إلى إمكانية قراءة اللغة

الفارسية فائدة  كبيرة في إبعادنا، نحن الذين لا نفقهها، عن التأثيرات

النثرية الناشئة من قراءة النص والوقوع في أسر معناه، والاكتفاء

بالانشغال بتلقي (البصري)، الذي هو شكل الحرف (كاليغرافيته) وموسيقاه.

   يتألف البصري، في الخط العربي الآن، أكثر من السابق، من (سطح اللوحة)

بعناصره الثلاثة : الخلفية والنص والحاشية، وليس فقط بتقديم نص مقروء

محاط بحاشية من الزخارف، كما كانت لوحات الخط التقليدية سابقا. فقد أنجز

سيرجي اسرافيل الخلفية بالألوان المائية (وربما هي ألوان نباتية) على ما

يبدو، فاستخدم عدة تكنيكات (أساليب تقنية)، منها تكنيك (الصورة السلبية)

فيكتب حروفا بالبياض (بخط النستعليق غالبا) محفورة على الخلفية الملونة

بلون فاتح مائي، وقد يستخدم كتابات بقلم رفيع جدا مقارنة بالنص الأصلي،

وقد يستخدم عددا من مقاسات الأقلام متنوعة، ويوزعها باتجاهات مختلفة توجب

الدوران حول اللوحة لمعاينتها، وقد تكون هذه الكتابة المصاحبة تماثل

الأنغام المصاحبة في الموسيقى، وهو يكتبها أحيانا بلون مختلف، وبذلك تحقق

هدفا مهما في بناء لوحة الخط الحديثة، وهو ردم الفراغ بالخط، مع اللون

المائي الشفاف. وقد يستخدم سيرجي اسرافيل أحيانا الزخرفة بنوعيها النباتي

والهندسي.

ان أهم اختلاف يميز بين لوحات اسرافيل بخط النستعليق وبين خط الشكسته، هو

البناء المنضبط للأولى، والفوضى المقصودة للثانية، وذلك ربما كان مرادفا

للقواعد الصارمة لأشكال الحروف ومقاييسها وتوزيعها في الكلمة، وتوزيع

الكلمات في الأسطر، والأسطر في الصفحة لدى الخطاطين بالحرف العربي، بينما

تميل لوحاته بخط الشكسته الى التحرر، فتتناثر مجاميع الحروف، كالغيوم حين

تملأ السماء، لا قانون يحكمها سوى حركة الرياح.

يستخدم اسرافيل تقنيات مضافة في رسم نصوصه، مثل استخدام لون مختلف للنقاط

(أحمر بشكل عام)، وأحيانا حجم مختلف، وأحيانا تركيز مختلف للمداد (الحبر)

بين أجزاء الحرف الواحد، فيضع لونا داكنا في جزء من الحرف، ولونا فاتحا

شفافا في الجزء الآخر، وأحيانا يسيح قطرات ماء على جزء من سطح اللوحة بعد

انجازها، فتعطي شفافية وتنوعا في دكنة الحبر، وقد يكتب ذات النص بحجمين

وتوزيعين مختلفين بعض الشيء، وكأنه يريد إجبار المتلقي على مقارنة النصين

وتوزيعهما، وبذلك يبقى ذلك المتلقي في دائرة تقنية رسم الحروف (الخطوط)

منغمسا في متعته البصرية.

اليوم, 15:16
عودة