الرئيسية / اكسيليفون

اكسيليفون

اكسيليفون 

 

مآب عامر  

وقفت بنت حنطية البشرة قرب مجموعة من الطاولات الصغيرة، المرتبة وسط الممر في الطابق الأرضي لبناية العمارة، يداها تدوران حول الطاولات تتحسّس أغراضها. لون "بيجامتها" الصوفية أصفر باهت، أكمامها تصلّبت من الأوساخ، بشرتها متشقّقة، حتى لتبدو فوقها طبقة سوداء من الجلد الميت. استمرت بالدوران حول الأغراض، قرفصت عند أرضية الطاولة سحبت رزمة من نقود مزيفة تستعمل كلعبة, وادعت عدّها وكأنها نقود حقيقة. 

هواء بارد يدخل من بوابة العمارة المفتوح على مصراعيها، يتوافد الناس بكثرة، منهم من يجلس عند مطعم داخل العمارة، وآخرون يتسكعون حول البازار. رمت البنت من يديها نقود اللعب كلها، وتجولت بين الناس باحثة عن ألف دينار أو ربع دينار. وقفت بجانب طاولة يجلس عندها فتاتان, منغمسة كل واحدة منهما بتصفح هاتفها المحول. فوق طاولتهما مشروبات "الميلك شيك" وقطعتان من "الكيك" إحداهما لم تُمسس , أما الثانية فأخذ منها قضمه صغيرة. 

الأولى ترتدي فستانا أبيض مطرّزا عند الصدر، وعند الخصر يضيق بقطعة دانتيل تُظهر تفاصيل خصرها، تاركة شعرها البني متناثرا حول كتفها، الثانية ترتدي جينزا أسود و"قمصلة" جلدية سوداء، شعرها "كاريه" أسود متفحم. 

نظرت نحوهما بتوسل، حاولت الحصول على نقود لكنها جوبهت بالرفض، حاولت استمالة إحداهما بالحديث عن جوعها وأنها لم تتمكن من تناول الطعام منذ أمس، نظرت إلى طاولتهما، وأشارت بيدها طالبة إعطاءها قطعة "الكيك" نظرت الشابتان إليها وزجرنها بهدوء. 

بطلب من زبون، أغلق أحد العاملين بوابة العمارة. تسمرت أقدام البنت بجانب طاولة لعائلة: أم وأب وطفلة صغيرة، استطاعت الحصول على ألف دينار عراقي من الأم والأب، وعادت تدور حول البازار وكأنه جنة صغيرة، بهدوء نهضت الطفلة من جانب والديها وتسللت خلف البنت. 

وسط صخب المارة، قلبت البنت ساعة رملية بلون زهري، تبعتها الطفلة وقلبت الساعة باتجاه آخر. حملت البنت مجسماً صغيراً لشخصية "توم" قلبته وأعادته إلى مكانه، تحركات الطفلة تحاكي تحركات البنت. كرّرت الطفلة حركة البنت ولكنها غيرت مكان المجسم، انتبهت البنت على سلوك الصغيرة, الأمر الذي أرعبها، قفزت نحو المجسم وأعادته مكانه. 

شرشف أبيض رقيق يغطي طاولتين، على يمينه طرقت البنت مرتين وهي تبتسم بوجه الطفلة, على حوض صغير تسكنه سمكة زينة زرقاء. تحركت السمكة قليلا وعادت لسكونها، أطلقت الطفلة دمدمة تُبيّن تفاعلها مع البنت. ملامح الطفلة غليظة متجمدة، ملابسها سوداء داكنة، شعرها كستنائي قصير، يزين أذنيها حلقان ذهبيان. 

البنت أشبه بمرشد سياحي، تتجول تُري الصغيرة ما يمكن أن تفعله بكل هذه الأشياء. حملت عصا "الاكسيليفون" وبدأت بالضرب على الأحمر, ثم البرتقالي, يليه الأصفر والأخضر. أعطت العصا للصغيرة تبعتها بضرب الأزرق, فالنيلي, فالبنفسجي, فالزهري، تتابعتا بالطرق والضحك. ووسط الألحان, نادت الأم على الطفلة وأخبرتها أن تقول "وداعا." 

بقيت البنت تطرق مودعة الطفلة. استمرت بالعزف. نظرات غاضبة ومنزعجة من الشابتين لاحقتها من على طاولتهما، كُنّ كلما ينظرن إليها تبادلهن ابتسامة بلهاء. طلبت إحدى الشابتين، ذات "القمصلة" الجلدية من عامل المطعم إيقاف الصوت. سحب البنت من ياقتها وأخرجها خارج العمارة. 

على الرصيف جلست، تنظرُ إلى الداخل، تابعت الشابتين, انتظرت خروجهما. ركضت بسرعة قبل أن يُدرك العامل مغادرة الزبونتين. سحبت قطع "الكيك" والمشروبات من على الطاولة، وأسرعت إلى خارج العمارة.

أمس, 15:36
عودة