على حافة الذاكرة
محمد جبر حسن
لم يكن الوقت مناسبًا، ولا المكان يوحي بشيءٍ مميز.. شارع الرشيد بدا كأنه يختنق بصمته، ونَسي أن يتكلّم منذ سنوات وعلى وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
رغم ذلك، وجدتها هناك، واقفة وحدها قرب عمارة قديمة، تحدّق في يافطةٍ باهتة لعيادة طبيب أطفال رحلَ منذ زمن.
لم تكن تنظر إليها حقًا، بل إلى شيءٍ آخر لا يُرى، كأن ذاكرتها مشغولة بشيءٍ ما.
اقتربتُ منها، وتظاهرتُ بأني أشاركها النظر.. للحظة، تلاقت أعيننا.. فتحت عينيها بدهشة وابتسمت، وأنا بدوري ابتسمت، وارتجف شيء داخلي، كأن أحدهم ضغط على زرّ في ذاكرتي.
لم تكن ملامحها استثنائية، لكن عينيها كانتا طافحتين بشيءٍ يشبه الحنين.. حنيناً تأخر كثيرًا عن موعده.
قالت بصوتٍ ناعم، بعد أن أطالت التحديق:
ــ معقول؟! هذا أنت؟ لا أكاد أصدّق.. يا لها من صدفة.. كيف حالك؟
ثم أتبعت كلماتها بابتسامة خفيفة، كأنها تحاول تلطيف الصمت:
ــ دائمًا كنت أقول لنفسي: يأتي يوم وألتقيه.. منذ تخرّجنا عام ألفين واثنين ما التقينا.. لم تتغيّر، فقط شعرك صار أبيضَ قليلًا.
ضحكتُ بلا تعليق، فقط شعرتُ كأن شارع الرشيد يمدّ رأسه من الماضي ليقول:
أنتم أيضًا تغيّرتم.
تمتمت:
-وأنا كذلك.. كنتُ أتوقّع أن نلتقي يومًا ما.
مررتُ يدي على شعر رأسي وقلتُ بابتسامةٍ متعبة:
-الدنيا تأخذُ أكثر مما تعطي.
أشرتُ لها أن نتحرّك كي لا نعطّل الطريق.. سرنا ببطء، واقترحتُ أن نجلس في مقهى “حسن عجمي”، الذي لا يبعد إلّا خطوات.
المكان بالكاد يتنفّس.. فيه عبقٌ قديم، وهو ما يميّزه.. جدران متعبة وتحمل صورًا لشخصيات سياسية وأدبية قديمة، وبعض المتقاعدين يقرأون الجريدة أو يحدّقون بلا هدف.
جلستُ قبالتها، لم أقترب كثيرًا.. كنتُ أحاول فقط أن أستوعب المسافة بين اليوم والبارحة.
لم تعد تلك الطالبة التي عرفتها قبل خمسةَ عشرَ عامًا في كلية الإدارة والاقتصاد.. حقيبتها من ماركةٍ عالمية، هاتفها آخر إصدار، وخاتمٌ ذهبي كبير يلمع في يدها.
بدأَت بالحديث، بحماسٍ أنيق، عن عملها في الوزارة، عن الاجتماعات، المناقصات، الاتفاقيات الدولية، ضغوط الإدارة، والقرارات الوزارية التي تُقرَّر في مكتبها.
كلماتها كانت ناعمة ومشذّبة.. لكنها كانت تضرب في عمقي.
ثم قالت إنها جاءت بعدة نسخ من أطروحتها للدكتوراه لتجليدها عند أحد المجلّدين في شارع المتنبي.
أنصتُّ لها كما أنصتُ في الاجتماعات النقابية، حين نعرف مسبقًا أن لا شيء سيتغيّر.
وعندما سألتني:
-وأنت؟ كيف كانت أيامك؟ ماذا عملت؟
أجبتها بهدوء عن عملي في ورشة أكياس نايلون في أحد أزقّة شارع الكفاح.
حدّثتُها عن الرطوبة التي تأكل الجدران، عن راتبٍ لا يكفي حتى نهاية الشهر، عن العامل الذي فقد إصبعه ولم يسأل عنه أحد، وعن أمي التي تخبز لنا وتكتم تنهيدتها كلما مرّ اسم أبي الغائب منذ الحرب مع إيران.
لكنها لم تكن هنا.. كانت تمسح شاشة هاتفها بأصبعها، كما لو تمسح شيئًا عن الذاكرة.
ثم قالت، وهي تسعل بخفّة:
-عفوًا، كنتُ أتصوّر أننا سنتكلم عن الذكريات، عن أيام الجامعة، لا أن نفتح دفتر المواجع والهموم والأحزان.
صمتُّ.. كلامها جرّني إلى مكانٍ أعرفه جيدًا، لكنني عدّلت مزاجي وتحدثت عن الكتب، عن تلك التي صادرها الأمن، عن زميلنا الذي فُقد في غياهب الدوائر الأمنية أيام النظام السابق، عن دفاتري المخبّأة تحت الفراش، وعن رغبتي في أن أكتب شيئًا لا يُصادر، ولا يُخاف منه.
قاطعتني:
-الدنيا تغيّرت.. الناس صارت تركّز على الواقع الحالي، لا على الأوهام والأحلام.
رفعتُ نظري إليها وقلت:
-الواقع الذي تتكلمين عنه.. لم يمرّ من هنا.. لم يشمّ رائحة بغداد الحقيقية، أيام كانت تنام وتفيق على صوت الانفجارات وما تبعها من فساد.
لم ترد.. نظرت إلى ساعتها، ثم وقفت وقالت بنبرة حازمة:
-أروح.. عندي اجتماع مهم بعد أقل من ساعة.
غادرت بسرعة، سائقها كان بانتظارها عند الطرف الآخر من الشارع.. لم تلتفت، ولم تسمع مني كلمة الوداع!
جلستُ وحدي، أمامي استكان شايٍ برد منذ ربع ساعة، وعلى الجدار صورة رجلٍ نحيف يحمل كتابًا كأنه يُلقي محاضرة في الفلسفة.
فكّرتُ أن الزمن لا يمشي بخطٍّ مستقيم، بل يلفّ دائريًا ليعيدنا إلى نفس الحافة.
خرجتُ بعدها.. ومشيتُ نحو جسر الشهداء.
الماء يجري، الناس تعبر، والسيارات تمضي.
والحياة، كما يبدو، لا تنتظر أحدًا.
هناك فقط، عرفتُ أن بعض القصص لا تنتهي بلقاء، بل بنظرةٍ لا يقرؤها إلّا أنتَ.
وعرفتُ أيضًا.. أن بعض الطرق المغلقة، لا تُفتح مرتين.