للمحبة شفافية تذوب فيها عطور الورد ، وهي تلتقط المتكتم عليه بالذاكرة الحافظة على أزمنة مثيرة للسخرية والنكات . وهي تستعيد محكيات الجنود الذين تسللوا في الليل ولم يعد واحد منهم . هم زرعوا نكاتاً وأغان ، ووزعوا للفتيات روائح الحياة ، التي ظلت الفتيات منها حدائق ملونة . وحياة بهذه الزينة تكون لها سرديات خاصة بالفجائع غير المؤقتة .
لأن الشاعر صوت عاشق ليس للحياة فقط ، وإنما لكل من عرف وما يكتبه مثير للعجب والدهشة ، يبث فيه الجمال والتعطش لمرويات لها ضرورة الاستعادة ، ومزاولة التدوين لمنحها للتاريخ حتى تصير ضمن مساحته الكبيرة من السرديات .
هذه الثنائية التي يكون فيها الشاعر صوت الاستعادة ذات طاقة تسجل الماضي ويتعامل معه نوعاً من الحنين والتمجيد . ومن يقرأ مرويات الفجيعة تتضح جلية محكيات منذر عبد الحر وجع الخسارة وألم الغياب وقسوته وهذا واضح بشكل جيد في نصوصه المرثية :
كل ضحكة غرسناها
افصحت عن وردة
كل خطوة باتجاه الجنوب
عبّدتها أحلامنا بالشجن
كلّ وجع صمتنا أمامه
غنّت ذكرياتنا
لنرسم معاً قارباً
يحمل آهاتنا موالاً
ودعاءً خفياً
ياما لاذ خوفنا بظله / منذر عبد الحر/ شط العرب / دار أمل / 2021 .
نص بكائي منفتح على سرد تنوعت وحداته وصاغت عبر تعددها محكية تضاعف الوجع فيها وتراكمت المباكي ، لأن منذر عبد الحر عارف بما تريده الشعرية ومجازاتها بما كشفت . " كل ضحكة " غرسة لوحت لنا بزهرة فوحت بما لم يشمه أحد من قبل . وهذا المقطع كاف ليدلل على حيوية المجاز وجوهريته وما يفيض منه على سردية النص . ليس هذا فقط ، بل مجاز الصورة طاقة غير مألوفة بالكتابة . والشعرية التي تتوفر على مجاز الكلام ومجاز الصورة تمنح النص دهشة وغرابة .
" كل خطوة باتجاه الجنوب
عبّدتها أحلامنا بالشجن "
أول هذا المقطع مجاز لكنه منفتح على غير دلالته المحددة بايجاز شديد وذكرني هذا المقطع الذاهب نحو الجنوب بالفيلسوف نيتشه وعلاقته مع الجنوب حيث كان يتسامى فيه ويتشافى عندما تتردى صحته وكتب نيتشه شعراً جميلاً عنه .
نصوصه المكتفية بتوترات فيض محكيات الذاكرة واستحضارات التصورات المعيوشة وكأنها نتاج الآن ، لذا تبدو مشحونة بطاقة تجعل منه نصاً جديداً مانحاً العديد من الخصائص والمميزات التي تتضح نادرة بما تثيره من دهشات واعجاب وتضاعف الإحساس بألم الوجع وشدة الحزن المغيم بسواده وظلمته كلما يستعاد النص الذي ينتج صوراً مرئية تجعل من الغياب معاودة حضور وتحريك ما ينعش الذاكرة ويجعل من مروياتها جزءاً من بهجة القلب والتقاط المسرات .
مرثيات منذر عبد الحر ليست فردية كما تبدو من خلال سردية النص ، وإنما هي مباكي للجماعة وتضفي على الغائب تصورات غير مألوفة ومثيرة كثيراً . ما حازت عليه مرويات الرثاء من خصائص فنية غير معهودة تشجع تكريس هذا النوع من الكتابة ، التي حازت تاريخاً امتد منذ البدئية الاولى لسومر ، وازدادت قوة نماذجها وتحولت مجداً لتاريخها الاول ، ولم تكتف بما وصلت اليه من عناصر الجدة ، تتضح وكأنها جديدة ومتباهية ، بإعلانها للوجع والخسران ، لذا حازت تجربة الشعر العراقي منذ بدئيتها ما هو غير مألوف والتقطت تجارب متجاورة ، وأعلنت المباهاة بالذي تعلمت منه ولم يبخل عليها وتزاحمت الديانات القديمة والتقطت أجمل وأهم المراثي وأضفت على شخوص استحقت حيازة هذا الموروث ، والشواهد ، على ذلك كثيرة وظلت فاعلة كثيرة الوجع لحظة الاستعادة والاستماع وتفجر المختزن من الألم والإحساس بالخسران والفقدان . ومثل تلك الغيابات لن يرممها الزمن ، لأنه فكك حائط الصداقات ، ولم يكن ممكناً حتى معاودة التصور الذي كان والتعامل واياه ، بروح حيّة ونابضة بطاقة الكائن ، المعلن عن الكامن بروحه .
من يقرأ نصوص منذر عبد الحر تتكشف له امكاناته المتميزة ، لأنه يبذل جهداً كبيراً بالإنسان وتتضح المكانة التي يعطيها له من خلال شعره ، وأنا كلما اتضحت طاقة النص الذي أقرأه وأتعرف عليه ، أ تمكن من توصيف البكائية المكتوبة عنه ، إذا لم أكن أعرفه من قبل . لأن الشعر لذاته بوصفه فناً وبوصفه تعبيراً الأرقى عن الانسان .
نص " هي مزحتنا الأخيرة " المهدى الى الروائي محمد علوان جبر قدم شهادة فنية من أرقى ما توصل اليه الشعر الجديد ونجح برسم تصورات مبهرة ومدهشة ، وأعاد صوغ شخصية محمد علوان جبر ، واضفى عليه ، ما هو غير معلوم ، للذي يعرفه من قبل :
لا تدع صديقاً
يأتيك معتذراً بعد فوات الاوان
ليراك حبراً غافياً على قماش أسود
فليصرخ عالياً
كان عليك أن تنتظرني / ص44
غياب آخر وانتهاك للحظة التي لا تختلف عن لحظة الموت المرتقب وغير المهدد ، وفي هذا المقطع هزات الشعرية ، بطاقتها ورضا ، بالذي حصل ، وكان منتظراً . على الرغم من الغائب يعلم بالذي سيحصل . فالكذبة حاصلة ، والاعتذار امر سهل ، بوصفه مكملاً لما ينشأ بين الاثنين ، ولا يجد منك غير الذي تركته الايام ، على قميصك من الدنيوي ، ماثل وكثير التكرر ، وتعامل معه منذر عبد الحر باعتباره ما ورائياً . ولا يتنكر الكائن للغيبي لأنه يعيشه بكثرة . وكتابة منذر عبد الحر للمراثي ــــ وهي جميلة جداً ــــ اعتراف وقبول ، وما عبر عنه بالشعر ، لأن اللغة هي بيت الشعر . وعلينا أن نشير الى أن الشعر ، لا يعطل الفكر النقدي / أو الثقافي الذي وظفه الشاعر .