في زماننا هذا، يقول الأرجنتيني المتبصر خوري لويس بورخيس، أحد أنبياء السرد، على ندرتهم عبر التأريخ : " الأحزان كلها، خفيفها وثقيلها، يمكن لنا تجرع قسوتها ووحشيتها، أيا كانت شدتها ومرارتها، إذا روينا حكاية عنها، أو كتبناها في قصة."
والقصة - الحكاية موضوعة تناولنا هنا" نور خضر خان" مسرودة الروائي والقاص جابر خليفة جابر والتي أوغلت في اكتشاف عوالم متداخلة لماض بعيد وقريب، مثلما استشرفت عوالم مستقبل ضاربة في الأفق، بعد ان تكون قد مرت بعوالم حاضرة، ما انفكت ابخرة حرارة تنورها الراهن تملأ خياشيمنا، حتى حصلت بامتياز تسميتها بملحمة الحزن الإنساني بنحو عام، والبصري - العراقي بنحو خاص.
باستخدام واحدة من اليات السرد المعروفة" البولوفينية" تستهل الملحمة أحداثها عبر أربعة مؤلفين يخبرنا بهم القسم الأول في" سيرة رواية" يبدأها الأستاذ خاجيك مستخلصا إياها من يوميات زوجته، ثم يليه الروائي" الراحل" جابر خليفة جابر ألذي صاغ الرواية" من دون تعديلات" كما يقول لتصدر طبعتها الثانية في العام" 2024"، أما الراوي الثالث فهو الدكتور شكران محمد امين، الذي يتحفنا بتفاصيل جديدة في الطبعة التي وصلت الى أيدينا في العام 2049، الامر الذي يوحي بان هناك طبعات آخر لامتناهية للمسرودة ذاتها، لتنتهي بولوفينية المؤلفين فيصب تعدد أصواتهم في صوت المؤلف الأصل" نور خضر خان" ..
لحمة حكاية الملحمة، ببساطة متناهية، سيرة عائلة هاربة طلبا للنجاة من هول جريمة إبادة الأرمن التي اقترفها العثمانيون في 24 - نيسان - 1915 (حسب ويكبيديا)، وتفرق أفراد تلك العائلة في الشتات، ومنه جلب البعض منهم، على يد بعض ولاة البصرة كعبيد وإماء. ثم تنهمر الأحداث بنحو متلاحق، إنهمار لم تفلت يد نساج حكايات حاذق خيط سرد واحد منه، وبواسطة آليات " الحكاية داخل الحكاية" و" المضاعفة" التي اعتمدتها أشهر وأبدع السرديات عبر التأريخ كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والديكاميرون وغيرها، تمضي بنا الأحداث لتجعل الواقعي التاريخي متسيدا لغة سردها تارة، وأخرى يتسيد فيها المتخيل حد الفانتازيا، لتمسي" الحكاية" ديدن حياة في" صندوق الحكايات" الملازم لروح" آنوش" محظية عصمان العثماني، وشخصية المسرودة الرئيسة والتي أودعتها في" صناديق ملونة ومصنوعة من سويقات الأزهار الناعمة" ص186 ، ليسهل حملها حين تقرر الهروب الى الحرية. حتى بلغ الأمر بآنوش أن ذاع صيتها بوصفها الفتاة التي تشتري الحكايات لتجتمع اليها الحكاءات من جيرانها قريبات أو بعيدات، إذ غدت حاجتها للحكاية كما هي الحاجة للماء والطعام بالنسبة لها، لتحكي لنا هنا، ليس شهرزاد واحدة، بل شهزادات كثر ..
تأخذ الحكاية هنا دور يبدو، في التشديد على تناوله، حاسما، اذ ترث آنوش شغفها اللامنقطع بالحكايات عن أبيها، كما يخبرنا السارد في مفتتح المسرودة، ثم عن فاطمة بنت شكران، ثم عن سهيلة التي تعدها" نور خضر خان" الحكاءة الموثوقة من بين عديد الحكاءات، ليمسي دور الحكاية منفذا للخلاص إذ يشير الحكاؤون دائما وبنحو متكرر، إناثا كانوا أم ذكورا، أن لا سبيل للخلاص من عذاباتهم وربقتهم الموحشة سوى بالحكاية، كما لو كانت الحكاية تعويذة أو سحرا كامنا بمقدوره مد حبل النجاة ، كما مثلا في ص 213 وغيرها.
وبالعودة الى" سهيلة" الشخصية الرديفة للشخصية الرئيسة" آنوش" والحكاءة الأخيرة تتغير هذه المرة وظيفة الحكاية، على يد سهيلة، من سلعة تشترى إلى سلعة تباع، إذ تغدو مصدر رزقها الوحيد بعد أن ترادفت عليها مصائب الزمن ومكابدة شظف العيش ايام" قسوة الحصار عليها وهي بلا معيل ولاحول ولاقوة ولا مصدر رزق عندها سوى بيعها للحكايات، فقد كانت النسوة يأتين عندها لتقص عليهن كل يوم حكاية تسلي نفسها وهن يضعن بعض النقود قبل أن يخرجن" كما يخبرنا السارد في ص 240.
من وجهة اخرى يتبدا السارد، في خضم الوقائع والأخيلة الضاجة في مسرودته، كما صياد ماهر، فرائسه الأحداث والرؤى والأفكار، ينصب لها فخاخ وشباك محكمة، فيصيرها حكاية، لايلبث دافعا بها في صلب حكاية اخرى، وتحت عنوانات تبدو منفصلة للوهلة الاولى غير أن حبلا سريا ينتظمها كما نلمس ذلك مثلا في فصلي أو مقطعي"حكايات توما" ص187 و" نظران بن عدن" ص193.
وبمجاورة مكافئة لدورالحكاية بوصفها الفاعل شبه مطلق الفاعلية في المسرودة، يقف المكان فاعلا مؤثرا بنحو بليغ، فدار زمان ليست بدار بالمعنى المحدد للمفردة، إنما هي وطن، تتمراى على هيكله وفي جنبات حوشه وعديد غرفه وقبوه وحيطانه بل وحتى على خشب أبوابه أو شناشيل نوافذه، انعطافات الزمان البالغة الحدة والقسوة، وأظن تسميته بدار زمان لم تأت اعتباطا، وهو غالبا مستلبا محتلا، تناوب على إحتلاله محتلون كثر، كما يضم هو أيضا مقبرة لأهليه وكلهم قضوا ظلما وإجراما على يد ظالميهم الولاة الترك، وقد أسموا تلك المقبرة ب" مزارلك" تقديسا لمكانة الراقدين فيها، حيث رفات شهداء لم يكونوا احياء فقط عند ربهم يرزقون، بل هم إحياء في دار زمان يرزقون، يتبادلون الحديث يوميا مع سكنة الدار من ذويهم الاحياء، يشاركوهم أحزانهم الوفيرات وأفراحهم الشحيحات، وكذا احلامهم المقيمة أبدا في أرواحهم وتوقهم الجارف للحرية.
دار زمان هي البصرة وبغداد ويريفان والمحمرة ولندن وزنجباز ونيويورك وعبادان، وقد شهدت كل تلك المدن كثير من أحداث المسرودة .. دار زمان هي عالمنا المتوحش الفاقد لأبسط شروط الإنسانية، اذ تخبرنا المسرودة بتلك الخلاصة بمد خيوط نسيجها السردي إلى كل تلك المدن بلغة جد متبسطة كما لو كانت حكيا شفويا محض، لا تكلف ولا إنشاء أو تصنع، وتعاقب الأحداث وتداعياتها عبرها فيه من السلاسة والأنسياب ما يثير الدهشة بحق.
يقول بورخيس ايضا" أن الأستاذية في الفن هي تلك التي لاتتبدا" وخلف كل هذه البساطة والسلاسة في السرد في" نور خضرخان" تقعد هناك متخفية يقظة: أستاذية حاذقة بحق.
ختاما هذا غيض من فيض، مما يمكن رصده من مخبوءات هذه الملحمة، فيما حملت في جنباتها صفحات كثر، تشابك فيها الهم الإنساني مع الشاغل السياسي في مرأى واسع و بأطياف متعددة .. نفسد متعة القارىء قطعا إن حاولنا المرور بها جميعا أو أسترسلنا في عرضها.