الرئيسية / أنكيدو المنفي

أنكيدو المنفي

قرأت ادوارد سعيد أول مرة قبل فترة طويلة جداً ، وأول ما قرأت مقالاً طويلاً حول المنفى وكيف تتوزع شخصية المنفي بين مكان قديم وآخر جديد والآخر يتكرر باستمرار وتصير له ذاكرة مكانية ، منها ما يترك عالقاً في ذاكرته والآخر يستذكره بحزن وألم . ويظل المنفي موزعاً بين الأمكنة وله ذاكرات وهويات ، تعيش صراعاً بعضها مع البعض الآخر ، منها ما هو منتصر ومنها ما يكتفي بالكمون . وتكاد تكون حياة المنفي شكلاً من السرديات الصراعية ، سرديات منفتحة على الآتي حاملة معها حاضرها وماضيها ، وأكثر الأزمنة حضوراً هو الماضي الذي يعني المكونات الثقافية الأولى والتي تعيش شكلاً عنيفاً من الصراع مع سرديات / مرويات المنافي الجديدة . وأثار المفكر ادوارد سعيد اهتمامي جداً بالآراء والأفكار الثقافية والفلسفية عن المنفى وقد انبهرت بها للغاية ، لسبب بسيط أجد من الضروري الإشارة له وهو استفادتي من آراء ادوارد سعيد وتطبيقها على شخصية أنكيدو في ملحمة جلجامش ، لأني في حينها كنت اشتغل على المسكوت عنه في ملحمة جلجامش ، وحاولت توظيف ذلك عليه ، خصوصاً بعد دخوله مدينة أوروك وعلى الرغم من الصداقة العميقة بينه وبين الملك جلجامش ، لكنه كان واقعاً تحت هيمنة الدخول لأوروك بثقافتها المختلفة تماماً عن الصحراء ، لذا واجه كثيراً من الصعوبات والإشكالات ليس لأنه صديق لجلجامش فقط وإنما لوفادته الى أوروك ومثلما قال ادوارد سعيد ، لا يستطيع المنفي نسيان مكانه الأول وتظل مؤثراته كامنة في الداخل ، وتظهر في لحظة ما من تاريخ الشخصية .

صحيح أنه لم يكن مهمشاً كما قال سعيد ، لكنه ظل محتفظاً بذاكرته البدايات ، لأن المنفى أحد التراجيديات التي يعرفها المنفي ، الذي يظل دائماً أمام مواجهة مصير بشري محزن . وكما قال سعيد في كتابه [ الآلهة التي تفشل دائماً ] بأن النفي قبل الأزمنة الحديثة عقوبة فظيعة نظراً لأنها لم تكن تعني سنوات من التجوال بلا هدف بعيداً عن الأهل والأمكنة المألوفة فقط ، بل عنت أيضاً نوعاً من منبوذ باستمرار ، شخصاً لم يشعر أبداً بالألفة ، ودائماً في نزاع مع البيئة ، لا عزاء له حول الماضي ، ويشعر بالمرارة حول الحاضر والمستقبل . وقد أشار العلامة طه باقر : أن أنكيدو وقد رقد على فراش الموت وأدرك قرب نهايته ، أخذت تتوارد عليه الخواطر والذكريات ، فود لو أنه ما جاء الى حياة الحضارة ، بل ظل في باديته سعيداً خالي البال يرعى مع الظباء ، والحيوان . وأخذ يكيل اللعنات على من زين له المجيء الى حيث المدينة . فصار يلعن الباب الذي صنعه ودخل منه . والصياد الذي جاء إليه بالبغي التي زينت له المجيء الى أوروك :

رفع أنكيدو عينيه وخاطب الباب كما لو كان إنساناً

مع أن باب خشب الغابة لا يفهم ولا يعقل

اخترت خشبك من مسافة عشرين ساعة مضاعفة

قبل أن أبصر أشجار الأرز الباسقة

إن خشبك ، يا باب ، لم أر مثيلاً له في البلاد

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

لقد صنعك نجار ماهر في " نفّر " وجلبك منها

أيها الباب لو كنت أعلم أن هذا ما سيحل بيّ

وان جمالك سيجلب علي المصائب   

إذن لرفعت فأسي وحطمتك

وأن جمالك سيجلب عليّ المصائب

ولجعلت منك كلكاً [ طوافة ]

ولكن ما الحيلة يا باب وقد صنعتك وجلبتك

لعل ملكاً ممن سيأتي من بعدي

ستستعملك ويزيل اسمي ويضع اسمه

/ طه باق / ملحمة جلجامش ص118/119.

هذه اللحظة المأساوية ، هي لحظة مواجهة المصير ، بعد كل الذي قام به لمساعدة الملك جلجامش الذي حزن كثيراً على صديقه وحاول إقناعه :

حباك أنليل بقلب واسع

ومنحك الحكمة ولكنك تقول قولاً شططاً

علام يا صاحبي نطقت بهذه الأقوال الغريبة ؟

كانت رؤياك رؤيا عجيبة ولكنها مخيفة

ويا ما أكثر الرؤى العجيبة !

يسلط الآلهة على الأحياء الأحزان

وتسلط الرؤى على الباقين من الأحياء الأحزان

سأنام وأتضرع الى الآلهة / الملحمة ص120

التناقض واضح في كلام جلجامش ، لأن الإله أنليل هو الذي قرر اغتيال أنكيدو في اجتماع مجلس الآلهة الذي حضره كل من آنو / أنليل / شمش / أنكي وأصر الإله أنليل على الرغم من أن آنو قال كلاماً فيه إنقاذ لأنكيدو ، لكن أنليل باعتباره ممثلاً للسلطة التنفيذية في مجلس الآلهة بالعراق القديم قرر اغتيال أنكيدو الذي أدرك نهايته عبر الحلم الذي رآه لأنه ـ أنكيدو ـ حاز على الحكمة ومن عناصرها تفسير الرؤى والأحلام . ولم يعر أنكيدو اهتماماً لكلام الملك جلجامش ، لأنه أدرك تماماً الفجيعة التي ستحل .

يفضي لنا حلم أنكيدو وما قاله لصديقه الى بدئية  حياته الأولى في البرية ، حيث البساطة والتلقائية ، وينطبق رأي سعيد على ذلك حيث قال : ثمة فرضية شعبية لكنها خاطئة بالكامل أن المنفي مجتث تماماً ، منعزل ، منفصل عن موطنه الأصلي على نحو ميئوس منه / ادوارد سعيد / الآلهة التي تفشل / دار الكتاب العربي / ت : حسام الدين خضور / بيروت / 2003 / ص62 .

على الرغم من الحياة التي عاشها أنكيدو وسط مدينة أوروك إلا أنه خضع لوظائف جديدة تماماً في العلاقة مع المرأة وحصول متغيرات جوهرية بالنسبة للاتصال الإدخالي وهذا أمر مهم لن يكون من ضمن ما ترمي إليه هذه المقالة ، وقد درسناها في المسكوت عنه . ولكني اعتقد بأن ما قاله سعيد فيه صواب وتماثل مع حياة الوافد الى أوروك ، يرى المنفي الأشياء في شرط ما تركه خلفه .

أدرك أنكيدو بعد مرحلة طويلة ، خاض فيها الكثير من المتاعب والمصائب دعماً لصديقه جلجامش ، بأن وجوده الطويل في مدينة أوروك هامشي . والقرار الذي اتخذه الإله أنليل مع تحفظات آنو / شمش / أنكي ، يؤكد هامشية أنكيدو . وبقاء النفي ملاحقاً ومطارداً له .

21-10-2022, 13:55
عودة